Wednesday, April 15, 2009


فاس: التاريخ الرسمي و التاريخ الشعبي

أحمد عصيد
تحتفل فاس بعيد ميلادها الألف و مائتين، بعد تاريخ زاخر بالعطاء و الأحداث الهائلة التي شكّلت في كثير منها منعطفات تاريخية حاسمة، عاشت فيها لحظات مجد و رقي حتى كانت قبلة لنخب الشمال الإفريقي، و مرّت بمراحل عصيبة حتى أكل فيها الناس الجيف و الموتى. غير أن لفاس في الوجدان الشعبي صورة مليئة بالمفارقات، فكما كان متوقعا لم ينج الإحتفاء بفاس من أدلجة و تحريف، و من دعاية لأفكار متقادمة، و إيقاظ لشعارات لم يعد لها من معنى غير الإستفزاز، فقد أريد لفاس بعد 1930 أن تكون شاهدة على تاريخ آخر غير التاريخ الفعلي الذي عاشه المغاربة على مدى قرون طويلة، فسمعنا مرّة أخرى إبان انطلاق الإحتفالات عن المدينة "العربية الإسلامية"،

حتى و لو كانت في محيط أمازيغي صرف، و رغم أنها تحمل إسما أمازيغيا لا علاقة له بكلمة فأس المفترى عليها، و سمعنا عن "العاصمة العلمية" رغم أن كلمة علم صار لها اليوم مدلول لا علاقة له مطلقا بما انشغلت به و تنشغل به المدينة العريقة، مما جعلها تتوقف عن العطاء الخلاق منذ أن دخل المغرب في السياق الحضاري الحديث الذي وجّه البلاد و العباد شطر نموذج حضاري مختلف تماما بعد أن اقتحم علينا الغربيون عزلتنا ليجدونا في أسوإ حال في عاصمتنا العلمية.

لفاس صورتان : صورة التاريخ الرسمي الذي جعل منها عاصمة سياسية و علمية و منارا حضاريا، و أيضا منطلقا لاجتماعات الحركة الوطنية التي قيل إنها هي التي حرّرت البلاد، و صورة في الوجدان الشعبي للمغاربة جعل منها عاصمة العائلات الأندلسية التي تحمل ثقافة مفارقة لثقافة الشعب، و التي تحرص على تولي مناصب الترأس و السلطة و النفوذ، و التي تسعى إلى إشاعة ثقافتها اعتمادا على وسائل الدولة و على حساب ثقافة الشعب المغربي، و لهذا ترتبط فاس في الوجدان الشعبي بالطرب الأندلسي، الفن الذي فرض على المغاربة فرضا بشكل يومي في الإذاعة و بمناسبة و بدونها في التلفزيون، أيام الجمعة و مع حريرة رمضان، و في طائرات الخطوط الملكية المغربية و في الأوساط الرسمية، فرض على الناس حتى ملوّه و ضجروا منه و أصابهم منه نفور كبير، لأنه لم يعد فنّا بل وسيلة من وسائل السلطة و الهيمنة و أحد رموز الدولة الوطنية المركزية التي تحتفي بالواحد و تغتال الباقي في عتمة الهوامش المنسية.

و في مقابل صورة فاس التي احتضنت اجتماعات الحركة الوطنية و قرأ في مساجدها اللطيف، تحتفظ الذاكرة الشعبية بصورة العلماء الذين مدحوا إدارة الحماية من على منابر المساجد و الذين ألحوا على ليوطي ليزور ضريح مولاي ادريس بعد شفائه من مرضه، و الذين واجهوا ثورة عبد الكريم الخطابي بالأهاجي و الخطب النارية و قد أصابهم الهلع من زحفه في اتجاه مدينتهم، و الذين كانوا يحتفلون مع الحماية بانتصارات الجيوش الفرنسية على القبائل الأمازيغية المقاومة، تحتفظ ذاكرة الشعب كذلك بتاريخ طويل من الحصار الذي كان يضرب على فاس بين الفينة و الأخرى من طرف القبائل الأمازيغية المحيطة استنكارا لظلم المخزن و زبانيته، ألم يقبل السلطان عبد الحفيظ بتوقيع عقد الحماية للفرنسيين و هو تحت حصار القبائل التي طالبت بعزله ؟

ارتبطت فاس كذلك في الوجدان الشعبي بعد الإستقلال بفكرة المثلث المحظوظ فاس ـ الرباط ـ الدار البيضاء الذي حظي بتمركز الرساميل على حساب باقي مناطق المغرب التي تركت لتتدبر شؤونها بنفسها بطرق شتى كالتهريب و المخدرات و الهجرة و الدعارة، ثم بتأسيس الجمعيات و البحث عن تمويل أجنبي، في الوقت الذي تحظى فيه جمعيات أهل فاس بصفة النفع العام منذ ولادتها، و تقضي كل حاجاتها من المال العام.

لفاس أوجه كثيرة، و عيد ميلادها يثير حديثا ذا شجون، لكنها تظلّ المدينة المغربية العريقة التي سينصفها التاريخ الشعبي عندما يحقق المغاربة بنجاح انتقالهم نحو الديمقراطية و المساواة الحقيقية.

No comments: